نظافة البيانات الرقمية: الانضباط الهادئ الذي تحتاجه كل الشركات التي تعتمد على البيانات

في عصر يشهد توليد البيانات بوتيرة غير مسبوقة، تجد المؤسسات نفسها غارقة في كمّ هائل من المعلومات التي تصلها من مصادر متعددة مثل: تفاعلات العملاء وأجهزة إنترنت الأشياء ومخرجات الذكاء الاصطناعي وغيرها. وعلى الرغم من أن توظيف هذه البيانات يمكنه أن يوفر ميزة تنافسية، إلا أن التحديات الحقيقية تكمن في إدارة هذه البيانات بفعالية. لقد أصبحت نظافة البيانات الرقمية، أي الحرص على سلامتها ودقتها وملاءمتها وأمنها طوال دورة حياتها، حجر الأساس لاستراتيجيات البيانات القوية، لكنها في ذات الوقت لا تزال تعتبر من أكثر المجالات المُهملة في تكنولوجيا المعلومات على مستوى المؤسسات.

البيانات تنمو بوتيرة متسارعة، ولكن السؤال المطروح هل تتم إدارتها بشكل صحيح؟

من المتوقع أن يصل حجم البيانات التي يتم توليدها عالمياً إلى 394 زيتا بايت بحلول عام 2028، أي نحو ثلاثة أضعاف ما تم توليده في عام 2023. وتجسد منطقة الشرق الأوسط هذا التوجه إذ من المتوقع أن ينمو سوق مراكز البيانات في المنطقة من 5.57 مليار دولار أمريكي في عام 2023 ليصل إلى 9.61 مليار دولار أمريكي بحلول عام 2029، وذلك بمعدل نمو سنوي مركب يبلغ 9.52%. ويعود هذا الارتفاع إلى عدد من العوامل منها التحول الرقمي، ومشاريع المدن الذكية، واتساع نطاق اعتماد الحوسبة السحابية، ما يتطلب وجود إجراءات صارمة لإدارة البيانات تكون مدعومة ببنى تحتية قابلة للتوسعة وذات سعة عالية، بهدف ضمان سلامة وأمن هذا الكم الهائل من البيانات التي يجري توليدها.

ومع ذلك، لا تتساوى جميع البيانات من حيث أهميتها، ولا يجب تخزينها بشكل عشوائي. فالأنظمة القديمة، والمستودعات غير المهيكلة، والتخزين السحابي غير المُدار، والملفات المكررة، كلها تساهم في إيجاد ما يُعرف باسم “تضخم البيانات” والذي يشكل عبئاً على البنى التحتية لتكنولوجيا المعلومات، ويؤدي إلى ارتفاع التكاليف، ويعيق عمليات اتخاذ القرار.

الآثار الفعلية لـ”عدم نظافة البيانات” على قطاع الأعمال

تمتد آثار “عدم نظافة البيانات” إلى ما هو أبعد من مجرد التأثير على الكفاءة التشغيلية، وذلك لأنها تنطوي على مخاطر كبيرة متعلقة بالثقة والأمن والامتثال. على سبيل المثال، تتطلب لوائح مثل اللائحة العامة لحماية البيانات (GDPR) في الاتحاد الأوروبي توثيقاً واضحاً لكيفية تخزين البيانات ومعالجتها وحذفها. أما في الشرق الأوسط، فقد أصبحت قوانين توطين البيانات أكثر انتشاراً، والتي تُلزم في الغالب المؤسسات بتخزين بياناتها داخل الحدود الوطنية للدول، ما يزيد من تعقيد إدارة البيانات.

من جهته يعد الأمن السيبراني مصدر قلق حساس آخر، إذ أن “البيانات غير المُدارة جيداً” (Mismanaged Data) أو “البيانات اليتيمة” (Orphaned Data) يمكن أن تصبح هدفاً سهلاً للهجمات الإلكترونية، فالملفات المخزنة دون تشفير مناسب أو في مواقع غير خاضعة للرقابة تعتبر نقاط ضعف واضحة، لا سيما في القطاعات الحساسة مثل الرعاية الصحية، والتمويل، والخدمات اللوجستية، حيث يتم تبادل المعلومات الحساسة بشكل متكرر بين الأنظمة. ويعزز هذا الأمر الدور المحوري للبنى التحتية للتخزين الموثوقة وذات السعة العالية في ضمان سلامة البيانات واستمرارية العمليات على المدى الطويل.

بالإضافة إلى ذلك، وفي ضوء الاعتماد المتزايد على الذكاء الاصطناعي، فإن الحاجة إلى بيانات “نظيفة” لم تكن أكثر أهمية مما هي عليه الآن. ويتم تدريب نماذج الذكاء الاصطناعي على مجموعات بيانات ضخمة، وتعتمد دقة المخرجات على جودة البيانات المُدخلة، إذ يمكن للبيانات غير الدقيقة أو غير ذات الصلة أو المتحيزة التأثير سلباً على أداء النماذج. بالإضافة إلى ذلك، تولد أنظمة الذكاء الاصطناعي بيانات جديدة تُعاد تغذيتها في مجموعات التدريب، ما يؤدي بدوره إلى إحداث أثر تراكمي. ولذلك فإن غياب أو ضعف ممارسات “نظافة البيانات” يُعرّض المؤسسات لعواقب غير مقصودة مرتبطة بقرارات الذكاء الاصطناعي. كما يُساهم وجود بنى تحتية تقنية مناسبة في تمكين المؤسسات من التعامل مع المتطلبات المتنامية للذكاء الاصطناعي على نطاق واسع، والتمتع بالأدوات التي تتيح للمؤسسات تجاوز هذا التحدي.

الأساس المتين لنظافة البيانات الرقمية

يتطلب تأسيس بيئة بيانات نظيفة وجود استراتيجية مستمرة تشمل العمليات والثقافة والأدوات، الأمر الذي يعزز الدور المحوري الذي تؤديه البنى التحتية الموثوقة وذات السعة العالية للتخزين في الحفاظ على سلامة البيانات على المدى الطويل واستمرارية العمليات. وتشمل الأركان الأساسية ما يلي:

1. تصنيف البيانات بدءاً من لحظة توليدها: وسم البيانات عند إنشائها ببيانات وصفية تشير إلى مستوى حساسيتها وأهميتها وحالة دورة حياتها.
2. التشفير الشامل: تنفيذ التشفير بدءاً من لحظة توليد البيانات، مروراً بمرحلة النقل، وحتى إيقاف الاستخدام، وذلك لضمان حمايتها طوال دورة حياتها.
3. التكرار الهادف: الالتزام باستراتيجية النسخ الاحتياطي “3-2-1” (ثلاث نسخ من البيانات، بصيغتين مختلفتين، ونسخة واحدة خارج الموقع)، مع القيام في ذات الوقت بأتمتة اختبارات النسخ الاحتياطي الدورية لمنع التلف الصامت للبيانات.
4. إدارة دورة الحياة: تصنيف البيانات حسب تكرار استخدامها، وتكييف حلول التخزين بما يتناسب مع ذلك من أجل تحسين التكاليف وكفاءة استخدام الطاقة.
5. التدقيق والتنظيف بصورة دورية: إجراء عمليات تدقيق دورية للكشف عن البيانات المكررة، أو الملفات غير النشطة، أو نقاط الوصول غير المصرح بها، والحذف الآمن للبيانات التي لم تعد تخدم غرضاً معيناً.
6. مراقبة مؤشرات النظافة: تتبّع المؤشرات مثل استخدام السعات التخزينية، ونسب تكرار البيانات، وأنماط الوصول إلى البيانات، بهدف دعم الاستراتيجيات المستمرة.
7. تعزيز ثقافة المسؤولية: تثقيف جميع الإدارات حول مبادئ إدارة البيانات، مع التأكيد على أن نظافة البيانات هي مسؤولية جماعية.

استعادة السيطرة من خلال النظافة الرقمية

يسهم التركيز على نظافة البيانات الرقمية في تحقيق فوائد ملموسة على مستوى المؤسسة ككل، بدءاً من البنى التحتية الأكثر كفاءة، مروراً بتقليل إمكانية التعرض للمخاطر السيبرانية، ووصولاً إلى اتخاذ قرارات أسرع وأكثر دقة. وفي منطقة مثل الشرق الأوسط التي تشهد تسارع المبادرات الرقمية وتزايد متطلبات سيادة البيانات، فإن الحفاظ على سلامة البيانات لم يعد خياراً، بل أصبح هو الأساس لتحقيق النمو المستدام.

ومع ترسيخ مكانة البيانات بصفتها أصلاً استراتيجياً، لم يعد التعامل معها بمسؤولية أمراً مقتصراً على إدارات تكنولوجيا المعلومات، بل أصبح ضرورة على مستوى مجالس الإدارة. فالمؤسسات التي تطبّق ممارسات النظافة الرقمية منذ الآن، لن تنجح في تقليل المخاطر فحسب، بل ستضمن قدرتها على الابتكار والمنافسة والتوسع بما يلبي الاحتياجات المستقبلية، وذلك استناداً إلى بنية تخزين آمنة ومرنة وعالية الكفاءة تعتبر حجر الأساس لاقتصاد المستقبل المدفوع بالبيانات.