آخر الأخبار
نهاية سريعة لمهنة وُلدت في وهج الذكاء الاصطناعي: ماذا حدث لـ “هندسة الأوامر”؟

قبل ثلاث سنوات، تلقى سامي، وهو كاتب محتوى مستقل من تونس، عرضًا مغريًا عبر LinkedIn: وظيفة بدوام كامل كـ “مهندس أوامر” في شركة ناشئة متخصصة في الذكاء الاصطناعي التوليدي. لم يكن سامي خبيرًا في البرمجة، لكنه أمضى شهورًا يستكشف ChatGPT ويجرب صيغ الأوامر المختلفة للحصول على أفضل النتائج. فجأة، وجد نفسه في قلب ثورة تقنية — دون الحاجة إلى شهادة جامعية في علوم الحاسوب أو سنوات من الخبرة التقنية.
كانت هذه الوظيفة تبدو كأنها تذكرة عبور جديدة لعصر الذكاء الاصطناعي، مفتوحة أمام فئة واسعة من الناس الذين لم يكن يُسمح لهم سابقًا بدخول “أندية البرمجة والنماذج الذكية”. وعلى مدار عام، شهد سامي قفزات مالية ومهنية لم يكن يحلم بها.
لكن مع بداية 2024، بدأت العروض تقل. ثم توقفت. واليوم، يعمل سامي كمحرر محتوى تقني، ويقول: “ما كنت أفعله في السابق باتت تقوم به أدوات الذكاء الاصطناعي بنفسها، وبسهولة أكبر”.
هذه ليست مجرد قصة فردية. بل تمثّل تحولًا جذريًا في سوق العمل التقني، حيث تختفي بعض المهن بسرعة مذهلة، وتتحوّل إلى مهارات ضمنية، أو ما هو أسوأ: إلى وظائف من الماضي.
ظهور مفاجئ.. ثم تراجع أسرع
مصطلح Prompt Engineering، أو هندسة الأوامر، أصبح رائجًا بشكل كبير في نهاية عام 2022 وبداية 2023، بالتزامن مع صعود أدوات الذكاء الاصطناعي التوليدي مثل ChatGPT، Bard، وClaude. وقد بدا آنذاك أن كتابة الأوامر بطريقة صحيحة للحصول على أفضل مخرجات من هذه النماذج تتطلب خبرة ومهارة، بل وحتى حسًا لغويًا وفهمًا عميقًا لكيفية عمل النماذج اللغوية الكبيرة (LLMs).
المفارقة أن هذه الوظيفة لم تحتج إلى خلفية تقنية تقليدية. ولأول مرة منذ سنوات، وُلدت مهنة تقنية ذات أجر مرتفع يمكن لغير المبرمجين شغلها. وعليه، تحمّس الآلاف لتعلّم “هندسة الأوامر”، وانتشرت الكورسات، وتعددت العناوين.
لكن هذه “الوظيفة الذهبية” لم تعش طويلًا.
الذكاء الاصطناعي يلتهم مهاراته بنفسه
يقول مالكولم فرانك، الرئيس التنفيذي لشركة TalentGenius:
“الذكاء الاصطناعي بدأ فعليًا في التهام نفسه. هندسة الأوامر تحوّلت من وظيفة إلى مجرد مهمة. الجميع أصبح يعرف كيف يستخدمها، وحتى النماذج نفسها باتت تكتب الأوامر المثالية نيابة عنك”.
هذا التحوّل تقنيًا كان متوقعًا. فمع تطوير واجهات مستخدم أكثر سهولة، وتحديثات تجعل النماذج “تفهم نواياك” دون الحاجة إلى أوامر دقيقة، تراجعت الحاجة إلى متخصصين في كتابة تلك الأوامر.
وبالفعل، بدأت العديد من الأدوات تقدم ميزة “مساعد الأوامر” أو حتى تكمّل الأمر الذي تكتبه، فتفهم المطلوب دون تعليمات تفصيلية.
في بدايات 2023، كانت “هندسة الأوامر” تعتبر مهارة نادرة وقيمة — لأنها لم تكن معروفة بعد. لكن شيئًا فشيئًا، أصبحت هذه المهارة في متناول الجميع. ومن ثمّ، فقدت قيمتها السوقية.
يشبّه فرانك هذا التغير بمهارات مثل “الخبير في إكسل” أو “محترف بوربوينت”. فهي مهارات مفيدة، لكنها لا تُشكّل أساسًا لوظيفة مستقلة. من يتقنها يُفضل، لكن لا يُوظف من أجلها فقط.
وهكذا، انزلقت “هندسة الأوامر” من عرش التخصصات الصاعدة، لتصبح أداة إضافية في صندوق أدوات أي موظف رقمي.
الواقع المخفي: هل كانت وظيفة حقيقية أصلًا؟
بحسب أليسون شريفاستافا، خبيرة اقتصادية في مختبر التوظيف التابع لمنصة “إنديد”، فإن هندسة الأوامر لم تكن يومًا تصنيفًا وظيفيًا رئيسيًا في قواعد بيانات التوظيف. تقول:
“من المرجح أن هندسة الأوامر كانت مجرد جزء من مهام وظيفية أخرى، مثل مهندس تعلم آلي أو متخصص واجهات. لم تكن هناك وظائف كافية بعنوان ‘مهندس أوامر’ حتى يمكن تتبعها إحصائيًا”.
أما ألين ليرنر، المديرة التنفيذية لمنصة Interviewing.io، فترى أن الضجيج حول المهنة كان أكبر بكثير من واقعها:
“الناس انجذبوا لفكرة هندسة الأوامر لأنها بدت وكأنها باب سهل للدخول إلى عالم التقنية المربح دون خلفية أكاديمية أو تقنية. لكن عدد من عملوا بهذه المهنة فعليًا كان ضئيلًا جدًا مقارنة بالحماس الذي رافقها”.
فيما تختفي وظائف “التعامل مع الذكاء الاصطناعي”، يرتفع الطلب الآن على من يصممون هذا الذكاء نفسه. وظائف مثل “مهندس تعلم آلي”، و”مطوّر نماذج لغوية”، و”مهندس بيانات”، تشهد نموًا ملحوظًا.
تقول ليرنر:
“طلبات المقابلات التجريبية لمهندسي تعلم الآلة ارتفعت بأكثر من 3 أضعاف خلال الشهرين الماضيين. السوق يبحث الآن عمّن يَبني الذكاء الاصطناعي، لا من يستخدمه فقط”.
لغير المبرمجين: ما البدائل؟
لمن لا يملكون خلفية تقنية عميقة، لم يتبقَّ الكثير من الفرص إلا في مسارات مثل ريادة الأعمال، الاستشارات الإدارية، أو تحليل النظم. وحتى هذه المسارات تتطلب فهمًا عميقًا بتقنيات الذكاء الاصطناعي، وسياقها العملي داخل المؤسسات.
ووفق تقرير لمنصة “إنديد”، ارتفعت نسبة وظائف الاستشارات الإدارية المرتبطة بالذكاء الاصطناعي إلى 12.4% من إجمالي وظائف القطاع حتى فبراير 2025.
رغم تلاشي بعض الوظائف “السريعة”، لا يعني هذا أن الذكاء الاصطناعي لن يخلق وظائف جديدة، لكن طبيعتها ستكون مختلفة تمامًا — أكثر تخصصًا، تقنية، وهندسية. الوظائف القادمة ستتطلب فهم النماذج، بنية البيانات، أخلاقيات الذكاء الاصطناعي، وتكامله مع التطبيقات الواقعية.
كما تشير شريفاستافا إلى أن السوق سيتجه أكثر نحو التخصصات الهجينة — أشخاص قادرين على ترجمة تقنيات الذكاء الاصطناعي إلى تطبيقات حقيقية داخل المؤسسات، سواء في التعليم أو الصحة أو الصناعة.
ربما تكون “هندسة الأوامر” قد وُلدت من لحظة حماسة جماعية وطلب سريع على مهارة جديدة، لكنها لم تكن مهنة مستدامة. لقد تحوّلت سريعًا إلى مهارة ثانوية، بفضل سرعة تطور النماذج التي كانت تخدمها.
الدرس الأكبر؟ في عصر الذكاء الاصطناعي، لن تنجو الوظائف التي تقوم على تكرار المهام أو ملء الفجوات المؤقتة. ما يبقى، هو العمق، الفهم، والتكامل بين الإنسان والتقنية.