آخر الأخبار
الذكاء الاصطناعي في مواجهة الأخطاء الطبية: نظارات ذكية قد تُنقذ الأرواح

تشير الدراسات الطبية إلى أن واحدًا من كل 20 مريضًا قد يتعرض لخطأ طبي أثناء تلقيه الرعاية الصحية، وهو رقم صادم يكشف عن حجم التحديات التي تواجه القطاع الصحي حول العالم. ومن بين أكثر هذه الأخطاء شيوعًا، تأتي أخطاء صرف الأدوية، سواء عبر إعطاء المريض دواءً خاطئًا، أو صرف الجرعة غير المناسبة، أو الخلط بين القوارير والمحاقن داخل غرف العمليات.
حقائق وأرقام مقلقة
وفقًا لتقديرات منظمة الصحة العالمية، تتسبب الأخطاء الطبية المتعلقة بالأدوية في إصابة نحو 1.3 مليون شخص سنويًا في الولايات المتحدة فقط، وتؤدي إلى وفاة واحدة على الأقل كل يوم. وعلى الرغم من الجهود المتزايدة التي تبذلها المستشفيات والهيئات الصحية للحد من هذه الأخطاء، مثل اعتماد ترميز الأدوية بالألوان واستخدام الماسحات الضوئية للتأكد من تطابق الملصقات، إلا أن وقوع الخطأ لا يزال ممكنًا — بل شائعًا في بعض الأحيان.
ماذا يقول الأطباء؟
توضح الدكتورة كيلي ميكالسن (Kelly Michaelsen)، الأستاذة المساعدة في قسم التخدير بجامعة واشنطن، أن أخطاء الأدوية لا تقتصر على حالات نادرة، بل هي جزء من واقع عملي متكرر. تقول:
“تشير بعض الدراسات إلى أن 90% من أطباء التخدير قد ارتكبوا أخطاء دوائية خلال مسيرتهم المهنية. وهذا الرقم دفعني إلى التفكير في ضرورة تطوير حل تقني يُسهم في تقليل تلك الأخطاء.”
الذكاء الاصطناعي في الخدمة الطبية
من هنا وُلدت فكرة ابتكار جهاز ذكي يعتمد على تقنيات الذكاء الاصطناعي، متمثلًا في نظارة ذكية مزودة بكاميرا يمكنها التعرّف على قوارير الأدوية والملصقات بدقة، ومطابقتها مع المحاقن، وتنبيه الطبيب عند اكتشاف أي تعارض أو خطأ.
ركزت الدكتورة ميكالسن على نوع شائع من الأخطاء يُعرف بـ”تبديل القوارير” (Vial Swaps)، والذي يمثل حوالي 20% من إجمالي أخطاء صرف الدواء في غرف العمليات. يحدث هذا الخطأ عندما تُستخدم قارورة دواء غير صحيحة بسبب تشابه الملصقات أو عدم تطابقها مع الملصق المثبت على المحقن، مما يؤدي إلى حقن المريض بعقار خاطئ.
حادثة مأساوية ألهمت الحل
في إحدى الحوادث الشهيرة، توفيت امرأة تبلغ من العمر 75 عامًا بعد حقنها بعقار مسبب للشلل العضلي بدلًا من مهدئ، نتيجة خطأ في اختيار القارورة المناسبة. دفعت هذه الحادثة، وغيرها، الباحثة ميكالسن إلى البحث عن وسيلة تمنع وقوع مثل هذه الأخطاء مستقبلًا، فكان الحل: نظام ذكي يرتدي على شكل نظارة، يقرأ الملصقات بدقة ويطلق تنبيهًا صوتيًا أو مرئيًا عند وجود أي خلل.
كيف تعمل النظارة الذكية؟
يعتمد النظام على تقنية التعرف البصري (Computer Vision) المدعومة بالذكاء الاصطناعي، حيث تقوم الكاميرا بقراءة كل من قارورة الدواء والمحقن، ومقارنتها في الزمن الحقيقي للتأكد من التطابق. وفي حال وجود اختلاف — كأن تكون القارورة لا تتطابق مع الملصق الموجود على المحقن — يصدر النظام إنذارًا فوريًا.
استغرق تطوير هذا النظام الذكي أكثر من ثلاث سنوات، تخللتها مراحل تدريب للنموذج عبر لقطات واقعية وتجارب محاكاة في بيئات مشابهة لغرف العمليات. وتم نشر نتائج الدراسة في مجلة npj Digital Medicine أواخر العام الماضي، حيث أظهرت التجارب أن النظام تمكن من اكتشاف أخطاء تبديل القوارير بدقة وصلت إلى 99.6%.
تحديات التطبيق الفعلي
رغم دقة النظام العالية، إلا أن التحدي الحالي يتمثل في تحديد الوسيلة الأنسب لتنبيه الطبيب — هل يكون صوتًا خافتًا؟ أم إشعارًا مرئيًا يظهر على شاشة صغيرة في النظارة؟ كما أن الجهاز ما يزال في طور التقييم قبل الحصول على موافقة إدارة الغذاء والدواء الأمريكية (FDA) لاستخدامه في المؤسسات الصحية.
وقد أبدى الطبيب جون ويديرسبان (John Wiederspan)، الذي شارك في تجربة النظارة، إعجابه الشديد بفكرة المشروع، مشيرًا إلى أن هذا الابتكار قد يُحدث نقلة نوعية في سلامة المرضى. ومع ذلك، أشار إلى أن حجم النظارة لا يزال كبيرًا نسبيًا، ويحتاج إلى تحسين ليتلاءم مع الاستخدام العملي اليومي.
ما التالي؟
تطمح الدكتورة ميكالسن إلى توسيع قدرات النظام الذكي ليشمل أيضًا التحقق من حجم الجرعة داخل المحقن، وهي ميزة بالغة الأهمية خاصة في طب الأطفال، حيث تختلف الجرعات اعتمادًا على وزن الطفل. كما يأمل الفريق المطوّر في توسيع استخدام الجهاز ليشمل الأدوية الفموية، خاصة في أقسام المستشفيات التي تعتمد على توزيع الحبوب بشكل دوري.
الذكاء الاصطناعي ليس مجرد رفاهية تقنية، بل قد يصبح عنصرًا حاسمًا في حماية أرواح المرضى. وبينما لا يمكن للتكنولوجيا وحدها أن تمنع جميع الأخطاء الطبية، فإن دمجها ضمن النظام الصحي بطريقة مدروسة يمكن أن يشكّل طبقة أمان إضافية، تحمي المرضى وتساعد الأطباء على أداء مهامهم بثقة وكفاءة.
في بيئات العمل الطبية المليئة بالضغوطات، يصبح وجود مساعد رقمي ذكي قادر على التحقق من صحة الأدوية في الزمن الحقيقي إضافة لا تُقدّر بثمن.