آخر الأخبار
بطارية بالبروبيوتيك قابلة للذوبان: ابتكار يفتح أبواب الإلكترونيات المستدامة

في خطوة علمية تُبشّر بثورة جديدة في عالم التكنولوجيا الخضراء، طوّر فريق من العلماء في جامعة بينغهامتون الأميركية بطارية حيوية فريدة من نوعها، قادرة على توليد الكهرباء باستخدام البروبيوتيك، وهي كائنات دقيقة حية معروفة بفوائدها الصحية للإنسان.
لكن المذهل في هذه البطارية لا يقتصر على طريقة عملها، بل يتمثل في قدرتها على التحلل والذوبان في البيئة بشكل طبيعي بعد انتهاء مهمتها، دون أن تترك أي أثر سُمّي أو ملوّث.
البطارية الجديدة مصممة لتعمل لمدة تصل إلى 100 دقيقة، وبعدها تذوب بالكامل دون أي بقايا. هذا الابتكار يمثل نقلة نوعية في قطاع الإلكترونيات القابلة للتحلل، والمعروفة أيضًا باسم “الإلكترونيات الزائلة” (Transient Electronics)، والتي تشكّل مجالًا بحثيًا ناشئًا وواعدًا، يربط بين التكنولوجيا والبيئة بطريقة لم تكن متاحة من قبل.
استوحى العلماء فكرة هذا الابتكار من مشهد شهير في سلسلة أفلام الجاسوسية Mission Impossible، حيث يتلقى العميل السري رسائل “تدمر نفسها ذاتيًا” بعد قراءتها. وعلى الرغم من أن هذه الفكرة كانت تُعتبر خيالًا علميًا، فإن الباحثين سعوا لتحويلها إلى واقع علمي يمكن استخدامه في الحياة اليومية، خصوصًا في مجال الأجهزة الإلكترونية التي تحتاج إلى العمل لفترة مؤقتة فقط ثم تختفي دون إحداث ضرر.
ولكن المشكلة الكبرى التي واجهت العلماء لم تكن في تصميم الدوائر أو المكونات الإلكترونية القابلة للتحلل، بل في إيجاد بطارية يمكنها أداء وظيفتها ثم التلاشي بطريقة آمنة. معظم البطاريات التقليدية تحتوي على معادن ثقيلة ومواد كيميائية سامة لا يمكن التخلص منها بسهولة، مما يشكل تهديدًا كبيرًا للبيئة.
وهنا جاءت الفكرة العبقرية: استخدام كائنات البروبيوتيك، وهي ميكروبات حية آمنة ومتوفرة على نطاق واسع، كمصدر حيوي لتوليد الطاقة الكهربائية.
تعتمد البطارية الجديدة على مزيج من الورق القابل للذوبان في الماء وكائنات البروبيوتيك. الورق يشكل القاعدة البنيوية، بينما تقوم البروبيوتيك بتوليد الإلكترونات من خلال تفاعلاتها الحيوية، وهي نفس الكائنات الدقيقة التي نجدها في الزبادي والمكملات الغذائية.
عند تنشيط هذه الميكروبات، تبدأ بعملية التنفس الخلوي، والتي تُطلق إلكترونات يتم التقاطها وتحويلها إلى تيار كهربائي.
وقد سجّل الباحثون الخصائص التالية للبطارية في نسختها التجريبية:
- القدرة الكهربائية: 4 ميكروواط
- التيار الكهربائي: 47 ميكروأمبير
- جهد الدائرة المفتوحة: 0.65 فولت
هذه الأرقام قد تبدو متواضعة عند مقارنتها بالبطاريات التجارية، لكنها كافية لتشغيل أجهزة استشعار صغيرة أو أنظمة إلكترونية منخفضة الاستهلاك تُستخدم لفترات قصيرة.
ميزة الضبط الزمني للطاقة
من أهم المزايا التي تميز هذه البطارية الحيوية القابلة للتحلل هي قابليتها للتعديل الزمني.
بمعنى أنه يمكن تصميم البطارية بحيث تولّد الطاقة لفترة زمنية محددة مسبقًا، سواء كانت 4 دقائق أو تمتد إلى أكثر من 100 دقيقة، وذلك من خلال تغيير طول المكونات أو استخدام مواد بوليمرية حساسة لدرجة الحموضة، تتحلل بمجرد تغير البيئة المحيطة بها.
وهذا يعني أنه يمكن برمجة البطارية كي “تنتهي” في وقت محدد، ما يفتح آفاقًا هائلة لتطبيقات دقيقة وآمنة في مجالات متعددة.
هذا الابتكار لا يأتي في فراغ، بل ينسجم مع الاتجاه العالمي المتزايد نحو الاستدامة البيئية وتقليل النفايات الإلكترونية، والتي أصبحت تمثل أحد أخطر تحديات القرن الحادي والعشرين. فوفقًا لتقارير الأمم المتحدة، يُنتج العالم أكثر من 50 مليون طن من النفايات الإلكترونية سنويًا، ولا يتم إعادة تدوير سوى نسبة صغيرة منها.
ومن هنا، فإن البطاريات القابلة للتحلل تمثل حلًا مثاليًا للتقنيات ذات الاستخدام المؤقت، مثل:
- أجهزة الاستشعار البيئية في الغابات والمحيطات، والتي من الصعب استرجاعها بعد استخدامها
- الأجهزة الطبية القابلة للزرع داخل الجسم، والتي يجب أن تتحلل بعد أداء وظيفتها دون تدخل جراحي
- الأجهزة الأمنية أو العسكرية التي تتطلب سرية فائقة وتدمير ذاتي تلقائي
كما يمكن استخدام هذه التقنية في الاختبارات الميدانية أو الأبحاث الحيوية، حيث يكون التخلص الآمن من الأجهزة تحديًا لوجستيًا.
البروبيوتيك: من صحة الأمعاء إلى طاقة نظيفة!
لطالما ارتبطت كلمة “بروبيوتيك” بالصحة والتغذية، لكن هذا الابتكار يظهر أن هذه الكائنات الدقيقة يمكن أن تكون مفيدة في مجالات أبعد بكثير مما كنا نتخيله.
فبدلًا من دعم البكتيريا المفيدة في الأمعاء فقط، أصبحت البروبيوتيك الآن قادرة على دعم البيئة والتكنولوجيا في آنٍ واحد.
ومن الجدير بالذكر أن الباحثين اختاروا نوعًا من البروبيوتيك متوفر تجاريًا وآمنًا تمامًا للبيئة والبشر، وهو ما يسهل عملية الإنتاج التجاري مستقبلاً دون الحاجة إلى تراخيص بيولوجية معقدة.
مستقبل واعد… ولكن هناك تحديات
على الرغم من النجاح الذي حققته النسخة التجريبية، لا تزال هناك تحديات أمام تعميم هذه التقنية، ومنها:
- تحسين القدرة الكهربائية وتوسيع نطاق التطبيقات
- ضمان استقرار الأداء في ظروف بيئية مختلفة
- تطوير خطوط إنتاج قابلة للتصنيع على نطاق واسع وبتكلفة منخفضة
لكن مع تزايد الاهتمام العالمي بالتكنولوجيا المستدامة، ومع وجود استثمارات ضخمة في مجال الإلكترونيات الخضراء، فإن مستقبل هذه البطارية يبدو واعدًا، بل وقد تصبح نموذجًا يُحتذى به في الجيل القادم من الأجهزة الذكية.
في عالم يبحث عن حلول بديلة للتقنيات الملوثة، تظهر البطارية الحيوية القابلة للتحلل كبوابة نحو مستقبل أكثر انسجامًا بين التكنولوجيا والبيئة. إنها ليست مجرد بطارية صغيرة، بل فكرة كبرى تحمل في طياتها فلسفة جديدة:
أن الذكاء التكنولوجي لا يكتمل إلا إذا كان مستدامًا، طبيعيًا، و… قابلًا للذوبان.