آخر الأخبار
بدون ألم وبدون أقفاص: السيرك الذي أدهش العالم بهولوجرام ثلاثي الأبعاد

في قلب القارة الأوروبية، وتحديدًا في ألمانيا، وُلدت قصة استثنائية أعادت تعريف مفهوم الترفيه في السيرك، قصة لا تتعلق فقط بالعروض البهلوانية أو الألعاب النارية، بل بتحول أخلاقي وتكنولوجي غيّر مسار هذا الفن العريق. إنها قصة “سيرك رونكالي”، الذي تجرأ على اتخاذ قرار مصيري: الاستغناء الكامل عن الحيوانات الحقيقية في عروضه، واستبدالها بتقنية الهولوجرام المتقدمة، ليبدأ بذلك فصلًا جديدًا في عالم السيرك يجمع بين الإبداع الإنساني والتقدم التكنولوجي.
ما هي تقنية الهولوجرام؟
تقنية الهولوجرام هي أسلوب متطور لعرض الصور المجسمة ثلاثية الأبعاد، يُستخدم فيها شعاع ليزر يُقسم إلى شعاعين: أحدهما يُسمى بالشعاع المرجعي، والآخر يُسلّط على الجسم المُراد تصويره. عندما ينعكس هذا الشعاع عن الجسم، يلتقي بالشعاع المرجعي فوق سطح حساس للضوء، ويتم تسجيل تداخل الموجتين لتكوين صورة ثلاثية الأبعاد تظهر أمام العين وكأنها حقيقية.
من السيرك التقليدي إلى السيرك الأخلاقي
لسنوات طويلة، ارتبط السيرك بعروض الحيوانات المدربة التي تُجبر على أداء حركات بهلوانية أمام الجمهور. الفيلة، الخيول، النمور، والأسود كانت أبطال هذه العروض، ولكن خلف الكواليس كانت الحقيقة أكثر قسوة. فقد أظهرت تقارير متعددة أساليب قاسية في تدريب الحيوانات، شملت استخدام السياط، القيود الحديدية، الحبس في أقفاص ضيقة، والتنقل لساعات طويلة في ظروف غير إنسانية. من أبرز القصص المؤلمة:
- الفيلة الآسيوية التي تعرضت للضرب بخُطاف البولهوك في السيرك الأمريكي.
- “آن”، آخر فيل سيرك في بريطانيا، التي عانت من التعذيب على يد مالك السيرك حتى تدخلت السلطات وأدانت المسؤول.
- الفيلة “بيولا” التي توفيت بعد معاناة طويلة من أمراض ناجمة عن قيود الحركة.
- نشاطات سرية قادها نشطاء مثل جان كريمر وتيم فيليبس وثّقت الانتهاكات في السيرك في أمريكا الجنوبية.
كل هذه الحقائق ساهمت في زيادة الوعي العالمي، ما دفع الجمهور لمقاطعة السيرك القائم على استغلال الحيوانات، وأجبرت الحكومات على إصدار تشريعات لحظر هذه الممارسات.
كيف ساعد الهولوجرام في إحداث التغيير؟
أمام هذه التحديات، قرر سيرك رونكالي أن يُحدث ثورة في عالم السيرك. ففي عام 2019، كشف عن أول عروضه التي تستخدم تقنية الهولوجرام بدلاً من الحيوانات. تم تجهيز الحلبة بشبكة من أجهزة عرض ليزر موزعة حولها، تسقط الصور ثلاثية الأبعاد على شاشات شفافة مرنة مقاومة للكسر، تتيح رؤية بانورامية من جميع الزوايا دون الحاجة إلى نظارات خاصة.
العرض لا يقتصر على إسقاط صور للحيوانات، بل يشمل رسومًا متحركة ثلاثية الأبعاد بحجم واقعي، تصور فيلة وخيولًا وقرودًا وحتى كائنات خرافية، تتحرك وتتفاعل مع الفنانين الحقيقين. يُبرمج كل عرض بدقة عالية لتزامن الصوت والحركة، مما يُضفي واقعية مذهلة تُشعر الجمهور أن الحيوانات حقيقية بالفعل.
التقنية خلف الكواليس
- تُستخدم برامج مثل Maya وHoudini لتصميم الرسوم ثلاثية الأبعاد.
- يُعتمد على Storyboards لتخطيط كل مشهد.
- تُبرمج التفاعلات بين الفنانين والهولوجرام لتبدو طبيعية.
- يُدمج الصوت والمؤثرات الموسيقية في الوقت الحقيقي.
الاستجابة الجماهيرية: بين الإعجاب والتحفظ
عقب عرض برنامج “Storyteller”، تلقى سيرك رونكالي أكثر من 20,000 رسالة إلكترونية، عبّرت 95% منها عن الإعجاب الشديد والدعم لاستخدام الهولوجرام. اعتبر كثيرون أن هذه الخطوة تمثل نقلة نوعية نحو ترفيه رحيم وأخلاقي. كما أشاد الجمهور بالجودة البصرية العالية والإبداع الفني في تقديم تجربة ترفيهية جديدة.
في المقابل، عبّر بعض عشاق السيرك التقليدي عن حنينهم للعروض القديمة، مشيرين إلى أن حضور الحيوان الحي يمنح العرض روحًا خاصة لا يمكن تعويضها. لكن المؤيدين رأوا أن خيال الهولوجرام يفتح آفاقًا جديدة لعروض تجمع بين الإبداع والوعي البيئي، بل ويتيح عرض كائنات خرافية لا يمكن رؤيتها في الواقع.
التوسع في استخدام الهولوجرام خارج السيرك
لم تكن عروض سيرك رونكالي الوحيدة التي اعتمدت على هذه التقنية. فقد شهد العالم في السنوات الأخيرة حفلات موسيقية وعروضًا فنية أعادت إحياء نجوم غادروا الحياة، من خلال الهولوجرام:
- في المغرب ومصر، أُقيمت حفلات لأم كلثوم بصورتها المجسمة.
- أُعيد إحياء عبد الحليم حافظ في عروض هولوجرافية مؤثرة.
- في الإمارات، أُطلقت مبادرة “عالم دبي للهولوجرام”، التي قدمت حفلات لفنانين عالميين.
- في مهرجان كوتشيلا 2012، ظهر توباك شاكور بطريقة مجسمة أبهرت الجمهور.
- قُدمت عروض لمايكل جاكسون باستخدام الهولوجرام، دمجت بين الأداء المباشر والتقنية.
يُتوقع أن تُدمج تقنيات الذكاء الاصطناعي مع الهولوجرام لخلق عروض تتفاعل مع الجمهور، وتتكيف مع ردود أفعاله في الوقت الحقيقي. كما ستصبح العروض أكثر تخصيصًا، ويمكن أن تظهر في أماكن مختلفة في الوقت ذاته، ما يُتيح للفنانين إحياء حفلات حول العالم دون مغادرة مواقعهم.
التحديات الأخلاقية والتقنية
رغم الإيجابيات، لا تزال هناك تساؤلات أخلاقية وتقنية:
- هل من المناسب استخدام صور الفنانين الراحلين دون موافقتهم؟
- هل يمكن للهولوجرام أن يحل فعلًا محل الأداء الحي؟
- كيف نحافظ على التوازن بين التكنولوجيا والإنسانية في العروض؟
ما فعله سيرك رونكالي ليس مجرد تجربة تقنية، بل موقف إنساني ورسالة قوية بأن الترفيه لا يجب أن يأتي على حساب كائنات حية. لقد فتح هذا النموذج الباب أمام صناعة ترفيهية جديدة تحترم الحياة وتُقدّر التكنولوجيا. وبينما يستمر الجدل حول جدوى الهولوجرام، يظل السؤال المطروح: هل سيكون هذا هو المستقبل الحتمي لعروض السيرك والموسيقى والفن؟ أم أنه مجرد مرحلة انتقالية نحو شكل آخر من الترفيه؟