آخر الأخبار
التحديات التي تواجه الذكاء الاصطناعي في محاكاة الإبداع البشري: من النماذج اللغوية الكبيرة إلى الكتابة الإبداعية

في عام 1948، كان هناك عالمٌ يُدعى كلود شانون، وضع أسسًا لفكرة مبتكرة ستغير طريقة تفكيرنا في اللغة. كان شانون يؤمن بأن اللغة يمكن أن تُولد باستخدام الاحتمالات الرياضية، حيث يُمكن التنبؤ بالكلمة التالية بناءً على الكلمات التي سبقتها. على الرغم من أن هذه الفكرة كانت رائدة، إلا أن العالم في ذلك الوقت لم يكن مستعدًا لها، فواجهت الفكرة الكثير من الانتقادات، وأبرزها من اللغوي الشهير نعوم تشومسكي، الذي اعتبر الفكرة غير ذات جدوى.
لكن ما لم يكن يعرفه تشومسكي حينها هو أن فكرة شانون ستفتح أبوابًا جديدة في المستقبل. بعد أكثر من سبعين عامًا، في عام 2022، ظهر مشروع جديد يُدعى ChatGPT. وكان هذا النموذج اللغوي قد تحقق من خلاله حلم شانون، ليولد نصوصًا تبدو ذكية وملائمة، بل وأحيانًا شبيهة بما قد يكتبه البشر. أصبح الناس متحمسين لهذا الذكاء الاصطناعي الجديد، وبدأوا يتساءلون: هل أصبح الذكاء الاصطناعي قادرًا على التفوق على البشر في الكتابة؟
كيف يعمل ChatGPT؟
لنعود قليلاً إلى الوراء لنفهم كيف تعمل هذه النماذج اللغوية الضخمة. تم تدريب ChatGPT على كميات هائلة من البيانات، تشمل كل شيء من الكتب والمقالات إلى المحادثات عبر الإنترنت. من خلال هذه البيانات، بدأ النموذج في تعلم الأنماط اللغوية: كيف ترتبط الكلمات ببعضها البعض، وكيف تبنى الجمل لتكون منطقية ومتسقة. وعندما يُطلب من ChatGPT إكمال جملة، فإنه يختار الكلمة التالية بناءً على احتمالية ظهورها في سياقات مشابهة مما تعلمه.
لكن على الرغم من أن هذه النصوص قد تبدو ذكية في ظاهرها، هناك العديد من الأسئلة التي تبدأ في الظهور. هل حقًا يمكن أن يكون الذكاء الاصطناعي إبداعيًا مثل الإنسان؟ هل هو قادر على ابتكار أفكار جديدة، أم أنه مجرد آلة تكرر ما سبق لها تعلمه؟
الإبداع البشري مقابل الإبداع الاصطناعي
الإبداع البشري ليس مجرد إعادة تركيب للأفكار. إنه يتعلق بالبحث عن رؤى جديدة، بتفكير متعمق، وتجارب فردية فريدة. لكن عندما ننظر إلى النماذج اللغوية الكبيرة، نجد أنها تعتمد على شيء مختلف: الاحتمالات. هذه النماذج، مثل ChatGPT، لا تخلق أفكارًا جديدة تمامًا. بل إنها تجلب الكلمات التي من المرجح أن تأتي في جملة معينة استنادًا إلى السياقات التي تعلمتها من البيانات السابقة. ورغم أن النصوص الناتجة قد تكون مترابطة، إلا أن هناك شيء مفقود: البصمة الفريدة للكاتب، التي تكون مشبعة برؤيته الشخصية وفلسفته.
أنت، الكاتب، عندما تكتب، فإنك لا تقتصر على محاكاة ما تراه حولك. أنت تسعى لأن تعبر عن فكرة مبتكرة، أو مشاعر لا يمكن لأحد أن يعبر عنها بنفسك. وتلك هي النقطة التي يظل الذكاء الاصطناعي عاجزًا عنها. النموذج يمكن أن ينتج نصوصًا متماسكة، لكن لا يستطيع أن يتعمق في الإبداع بالطريقة التي يفعلها البشر.
قيود النماذج اللغوية الكبيرة
على الرغم من قدراتها، لا تستطيع النماذج اللغوية الكبيرة محاكاة الأسلوب الفريد لكتّاب معينين. إذا كنت كاتبًا، فربما ترغب في إنتاج نص يحمل بصمتك الخاصة، نص يعكس تجربتك ورؤيتك للعالم. ومع ذلك، تفتقر النماذج مثل ChatGPT إلى البيانات الخاصة التي تمثل أسلوبك الفريد، لذا فإن ما تقدمه هذه النماذج قد يبدو بعيدًا عن ما ترغب في الوصول إليه. إذا كان النموذج بحاجة لإضافة تفاصيل لتكملة نص طويل، فإنها قد تكون تفاصيل قد تروق للبعض، لكنها بالتأكيد قد لا تكون في الاتجاه الذي ترغب فيه.
إمكانات الذكاء الاصطناعي في الكتابة الإبداعية
لكن رغم هذه القيود، لا يمكننا إنكار أن الذكاء الاصطناعي يوفر إمكانيات كبيرة في مساعدة الكتاب. يمكن أن يكون بمثابة أداة مساعدة خلال مراحل معينة من الكتابة، مثل توليد أفكار أو مسودات أولية، مما يتيح للكاتب التركيز على الجوانب الأكثر إبداعًا. في حالات أخرى، يمكن استخدام هذه النماذج لتوسيع فكرة معينة أو تحسين نص موجود بالفعل، لكن النتيجة النهائية، بالطبع، تحتاج إلى اللمسة الإنسانية. الذكاء الاصطناعي يمكن أن يساعد، لكنه لا يستطيع أن يحل محل الإبداع البشري الأصيل.
هندسة المطالبات: تحسين تجربة الذكاء الاصطناعي
على الرغم من هذه القيود، بدأ الباحثون والمطورون في العمل على تحسين كيفية تفاعل البشر مع الذكاء الاصطناعي من خلال مجال يسمى “هندسة المطالبات” (Prompt Engineering). يشمل هذا المجال تطوير أساليب وتقنيات جديدة للحصول على مخرجات أفضل من النماذج اللغوية. أحد هذه الأساليب هو تقسيم المهام المعقدة إلى خطوات صغيرة ومتسلسلة. وهذا يساعد النموذج على تنظيم تفكيره بشكل أفضل، مما يؤدي إلى مخرجات أكثر تنظيمًا ودقة.
التفكير النقدي في عصر الذكاء الاصطناعي
علينا أن ندرك أن الذكاء الاصطناعي ليس بديلاً عن العقل البشري، بل هو أداة. لا يزال علينا أن نضع الفكرة، ونحدد المسار، ونوجه التكنولوجيا لتحقيق أهدافنا. الذكاء الاصطناعي في الكتابة لا يخلق الإبداع كما يفعل البشر، لكنه يمكن أن يكون حليفًا قويًا لمن يعرف كيفية استخدامه بشكل نقدي ومدروس. يمكن أن يكون جزءًا من العملية الإبداعية، ولكن في النهاية، يبقى الإبداع البشري هو العنصر الأساسي الذي يميز العمل الفني.
الذكاء الاصطناعي قد يكون قادرًا على “تقليد” الإبداع، لكنه لا يستطيع أن يصنع إبداعًا حقيقيًا. ومع تطور هذه التقنيات، سيظل الكاتب هو قائد دفة الإبداع، بينما سيكون الذكاء الاصطناعي مجرد أداة تساعده في إظهار أفكاره بشكل أكثر سرعة وفعالية.