آخر الأخبار
المدينة المنسوجة في اليابان: تويوتا تنسج خيوط المستقبل عند سفح جبل فوجي

في قلب اليابان، وتحديدًا عند السفوح الهادئة لجبل فوجي، تخطو شركة تويوتا خطوة جريئة نحو المستقبل، حيث لا تكتفي بتصنيع السيارات فحسب، بل تبني نموذجًا حضريًا متكاملًا لحياة ذكية ومستدامة. أطلقت الشركة مشروعها الطموح “المدينة المنسوجة” (Woven City)، الذي يُعد واحدًا من أكثر المشاريع التقنية طموحًا في العالم، ويهدف إلى إنشاء بيئة واقعية لاختبار وتطوير تقنيات الغد في مجالات التنقل، الطاقة، الصحة، والذكاء الاصطناعي.
استغرقت الفكرة أكثر من عشر سنوات من البحث والتخطيط، وتحوّلت إلى تصميم فعلي في عام 2020 عندما كشفت تويوتا عن المشروع لأول مرة في معرض الإلكترونيات الاستهلاكية CES في لاس فيغاس. بدأت أعمال البناء رسميًا في عام 2021 على أرض مصنع “هيغاشي-فوجي” السابق التابع لتويوتا في محافظة شيزوكا، على بعد حوالي 140 كيلومترًا من طوكيو. ومن المتوقع أن تُفتح المدينة تدريجيًا للاستخدام بدءًا من خريف عام 2025، مع إتاحة الزيارات العامة في عام 2026.
تبلغ مساحة المدينة 175 فدانًا، وقد صُممت لتكون “منصة تجريب حقيقية” للجيل القادم من الابتكارات. إنها ليست مجرد مدينة ذكية، بل نموذج حي لمدينة روبوتية متكاملة، حيث يتم جمع وتحليل البيانات من كل ركن، ومن ثم استخدامها لتحسين الأداء الحضري والخدمات بشكل لحظي.
المباني، الشوارع، أنظمة النقل، الإضاءة، خدمات الطوارئ، وحتى سلال القمامة، كلها متصلة ومؤتمتة. إنها بيئة رقمية تحاكي مدينة المستقبل وتُختبر على أرض الواقع.
بخلاف المدن التقليدية، لم تُترك تركيبة السكان في “المدينة المنسوجة” للصدفة. فهي تبدأ بـ 100 ساكن، معظمهم من موظفي تويوتا وعائلاتهم ومهندسين يعملون على تطوير التقنيات المستخدمة في المدينة، ومن المقرر أن يصل العدد إلى 360 شخصًا في المرحلة الأولى، بهدف الوصول إلى مجتمع يضم 2000 نسمة في المستقبل.
وينقسم السكان إلى فئتين:
- “المخترعون” (Inventors): وهم المسؤولون عن تطوير واختبار الحلول التكنولوجية داخل المدينة.
- “الحائكون” (Weavers): يعيشون التجربة اليومية ويقدمون ملاحظاتهم كأشخاص عاديين يتعاملون مع هذه الأنظمة.
هذا النموذج يتيح اختبار التقنيات في سياق حياتي حقيقي، بدلًا من الاعتماد فقط على المختبرات المعزولة.
واحدة من الركائز الأساسية للمشروع هي اختبار أنظمة التنقل الذكية، التي تعتمد على سيارات كهربائية ذاتية القيادة طورتها تويوتا في البداية لألعاب طوكيو الأولمبية 2020. هذه المركبات تُشكّل العمود الفقري للحركة داخل المدينة، وتُستخدم لنقل الأفراد والبضائع بشكل مستقل تمامًا دون تدخل بشري.
تصميم الطرق… ثلاثي الطبقات:
- مسار مخصص للمشاة يسمح بالحركة الآمنة والاسترخاء.
- مسار مخصص للأجهزة المتنقلة البطيئة كالدراجات والدراجات البخارية.
- مسار مخصص فقط للمركبات الذاتية القيادة لضمان السلامة والتجريب الكامل.
ليس ذلك فحسب، بل يتم توصيل البضائع أيضًا عبر نظام لوجستي تحت الأرض يعمل بشكل أوتوماتيكي، مما يقلل من الازدحام على السطح ويزيد من كفاءة النقل.
تم تصميم المدينة لتكون مستدامة بالكامل. الطاقة الكهربائية تُولَّد من خلايا وقود الهيدروجين، مدعومة بألواح شمسية مثبتة على أسطح المباني، بينما يتم تدوير المياه وإدارة النفايات باستخدام أنظمة بيئية متقدمة.
حتى المنازل نفسها صُممت لتكون ذكية. فهي تضم:
- روبوتات لمساعدة السكان في المهام اليومية.
- مستشعرات لمراقبة الحالة الصحية.
- أنظمة ذكاء اصطناعي تُدير استهلاك الطاقة.
- بنية معلوماتية متصلة تُغذي شبكة البيانات المركزية للمدينة.
الهدف ليس فقط تقليل البصمة الكربونية، بل خلق نموذج فعلي لحياة ذكية يمكن تكراره وتكييفه في مدن أخرى حول العالم.
مدينة تتعلم من سكانها
تُسجّل كل تفاعلات المستخدمين مع البيئة الذكية وتُحلل باستخدام الذكاء الاصطناعي. تُتيح هذه البيانات لتويوتا ومطوري المدينة فهم كيف يتفاعل البشر مع التكنولوجيا، وكيف يمكن تحسين الأنظمة لخدمة الإنسان بشكل أفضل. هذه المحاكاة الواقعية تجعل المدينة المختبر المثالي لتجربة وتطوير المدن المستقبلية.
تويوتا لا تخطط فقط لبناء مدينة واحدة، بل ترى في “المدينة المنسوجة” خطوة أولى نحو إعادة تعريف الحياة الحضرية في القرن الحادي والعشرين. إنها تجربة يمكن تكرارها وتطويرها في أماكن مختلفة حول العالم، لتكون نموذجًا جديدًا للعيش الذكي والمستدام.
وقد أبدت العديد من الحكومات والجهات الأكاديمية حول العالم اهتمامًا بالمشروع، بما في ذلك الولايات المتحدة، ودول أوروبية، وبلدان خليجية تسعى لتبني نماذج مدن ذكية مستقبلية.
حتى الآن، لا تزال المدينة مغلقة أمام العامة، وتقتصر على المهندسين والباحثين وسكانها الأوائل. ولكن تويوتا تخطط لإتاحة الوصول العام للمدينة بدءًا من عام 2026، لتُصبح وجهة علمية وتكنولوجية وسياحية فريدة، ومحجًا لكل من يطمح إلى رؤية مستقبل المدن بأمّ عينه.