المستشفيات الافتراضية: التقنية التي قد تغير شكل العلاج وتعيد تعريف دور الطبيب

شهد العالم خلال العقود الأخيرة تطوراً هائلاً في مجال الابتكارات التقنية، وامتد تأثير هذه التقنيات إلى جميع القطاعات بلا استثناء، من الصناعة إلى التعليم، ومن التجارة إلى الترفيه، إلا أن القطاع الصحي، وتحديداً المستشفيات، ظل لفترة طويلة بمنأى عن هذا التغلغل الكامل للتقنية. فقد بقيت الابتكارات التقنية في المستشفيات بمثابة أدوات مساعدة تُوظّف تحت إشراف الأيدي البشرية، بخلاف قطاعات أخرى سمحت للتقنية بأداء أدوار محورية بشكل مستقل.

والأمر لا يتعلق بقصور في التقنيات أو عدم كفاءتها، بل يعود في المقام الأول إلى الحساسية المفرطة لهذا القطاع، حيث أن أي خطأ بسيط قد يفضي إلى نتائج كارثية تمس حياة الإنسان وصحته. لكن وعلى الرغم من هذه التحديات، بدأت ملامح تغيير جذري تلوح في الأفق من خلال ما يُعرف بـ المستشفيات الافتراضية.

ما هي المستشفيات الافتراضية؟

ظهرت فكرة المستشفيات الافتراضية كردّ مباشر على القيود التي فرضتها جائحة كوفيد-19، والتي حالت دون وصول ملايين الناس إلى المراكز الصحية، إما بسبب الخوف من العدوى أو بسبب الازدحام الشديد. ومنذ ذلك الحين، تسارعت وتيرة التطوير في تقنيات الواقع الافتراضي، والأجهزة القابلة للارتداء، وأدوات الاتصال الذكي، ما جعل من الحلم واقعاً تدريجياً.

المستشفى الافتراضي هو منظومة متكاملة للرعاية الصحية تقدم الخدمات الطبية عن بُعد، بدون الحاجة إلى وجود فيزيائي للمريض أو الطبيب في نفس المكان. لا يقتصر الأمر على الاستشارات فقط، بل يشمل أقساماً متعددة مثل الاستقبال، التحاليل، الأشعة، والمتابعة الصحية، حيث يتم إدارة هذه الأقسام رقمياً باستخدام تقنيات الذكاء الاصطناعي، الحوسبة السحابية، والمستشعرات الذكية.

بمعنى آخر، يمكن للمريض من منزله إجراء فحص شامل، بدءاً من حجز الموعد، مروراً بالتشخيص والتحاليل، وحتى وصف الدواء، وكل ذلك بدون زيارة المستشفى الفعلي. ويتم جمع البيانات الطبية وتخزينها بأمان في خوادم رقمية، مما يسمح للأطباء بمراجعة التاريخ المرضي للمريض ومتابعة حالته باستمرار.

الفرق بين الاستشارات الافتراضية والمستشفيات الافتراضية

رغم التشابه الظاهري بين الاستشارات الطبية عبر الإنترنت والمستشفيات الافتراضية، إلا أن الفارق الجوهري يكمن في البنية التحتية وطبيعة الخدمات المقدمة. فبينما يعتمد الطبيب في الاستشارة الافتراضية على أدوات مثل Zoom أو Google Meet لتقديم المشورة بشكل فردي، فإن المستشفى الافتراضي يتضمن فريقاً طبياً متكاملاً يعمل بتناغم ضمن منظومة رقمية موحدة.

تحتوي المستشفيات الافتراضية على سجلات طبية رقمية متاحة لكل الأطباء داخل المنظومة، مما يُغني عن تكرار الأسئلة أو تضييع الوقت في إعادة جمع المعلومات. كما يمكن إرسال طاقم طبي إلى منزل المريض عند الحاجة، لإجراء تحاليل، أو تركيب أجهزة مراقبة، أو حتى أخذ صور أشعة.

فوائد المستشفيات الافتراضية

1. الوصول العالمي إلى الرعاية الصحية
   من أبرز ما تقدمه هذه المستشفيات هو إمكانية الوصول إلى العلاج من أي مكان في العالم، حتى في المناطق النائية أو عند السفر. يمكن للمريض التحدث إلى طبيبه المعتاد، الذي يعرف تاريخه المرضي، دون الحاجة للانتقال أو التعامل مع طبيب جديد.
   
2. تحسين الإدارة وتقليل التكاليف
   المستشفيات الافتراضية توفر بيئة عمل مرنة للكادر الطبي، وتقلل من تكاليف التشغيل مثل البناء، الكهرباء، الصيانة، وغيرها. كما تتيح متابعة الحالات الطارئة بشكل أسرع، دون ازدحام غرف الطوارئ أو العيادات.
   
3. تركيز الجهود على الحالات الحرجة
   عبر تحويل الحالات التي يمكن متابعتها عن بعد إلى المستشفى الافتراضي، يصبح بإمكان المستشفيات التقليدية التركيز على الجراحات، الحوادث، والحالات المعقدة التي تحتاج لرعاية مباشرة ومكثفة.
   
4. مرونة الطواقم الطبية
   يستطيع الطبيب اختيار ساعات العمل التي تناسبه، والعمل من أي مكان، مما يزيد من الإنتاجية ويقلل من الضغط النفسي والجسدي على الكوادر الصحية.
   

تحديات تواجه تطبيق المستشفيات الافتراضية

رغم الإمكانيات الضخمة التي توفرها هذه التقنية، إلا أنها لا تخلو من العقبات، أهمها:

• الحالات الحرجة التي تتطلب تواجد الطبيب شخصياً
  بعض الحالات لا يمكن تقييمها عن بعد، وتحتاج للفحص اليدوي، أو تدخلات جراحية، أو مراقبة لحظية مستمرة.
  
• البنية التحتية التقنية
  في بعض الدول، لا تزال شبكات الإنترنت أو البنية الرقمية غير كافية لدعم عمل مستشفى افتراضي متكامل.
  
• الخصوصية وأمن المعلومات
  التعامل مع بيانات طبية حساسة يتطلب حماية فائقة ضد الاختراق أو التسريب، وهو ما يُعد تحدياً كبيراً في ظل تطور الهجمات السيبرانية.
  
• التكامل مع الأنظمة التقليدية
  التنسيق بين المستشفيات الافتراضية والمراكز الصحية التقليدية أمر ضروري لكنه ليس سهلاً، ويحتاج إلى معايير موحدة ومرونة في إدارة الحالات.
  

نماذج واقعية من المستشفيات الافتراضية

من النماذج الرائدة عربياً، مستشفى “صحة” الافتراضي في السعودية، الذي أُطلق في عام 2022، بدعم من وزارة الصحة. يتعاون هذا المستشفى مع أكثر من 224 مستشفى تقليدي، ويوفر خدماته في أكثر من 44 تخصصاً دقيقاً.

وقد تم تجهيز المستشفى بجناح افتراضي لمراقبة المرضى عن بُعد، عبر إرسال مستشعرات خاصة تُركب في منازل المرضى، لمتابعة الحالات المزمنة أو الخطرة دون الحاجة للحضور.

وقد حازت مستشفى “صحة” على لقب أكبر مستشفى افتراضي في العالم وفقاً لموسوعة غينيس للأرقام القياسية، في إنجاز عالمي يعكس الطموح السعودي في قيادة التحول الرقمي الصحي.

وعلى الصعيد الدولي، تعمل شركات مثل “بوبا” البريطانية على إطلاق مستشفياتها الافتراضية الخاصة، ضمن نموذج هجين يجمع بين الحضور الفيزيائي والرقمي، ومن المتوقع أن تبدأ عملها خلال صيف العام الجاري.

كما تُعد تجربة الطبيب الأيرلندي ديريك أوكيف نموذجاً لنجاح هذا النوع من الرعاية الصحية، حيث يدير عيادة افتراضية في جزيرة نائية، تعتمد على الذكاء الاصطناعي والمستشعرات لمتابعة مرضى القلب والرئة، ما يجنبهم عناء السفر المتكرر للعلاج.

هل ستحل المستشفيات الافتراضية محل التقليدية؟

الإجابة الواقعية هي: لا.
لن تكون المستشفيات الافتراضية بديلاً كاملاً للمستشفيات التقليدية، بل ستكون مكملة لها، تركز على تخفيف الضغط، وتقديم الرعاية الأولية، ومتابعة الحالات المزمنة. أما الحالات الجراحية والطارئة، فلا غنى عن وجود مستشفيات فيزيائية متكاملة.

ومع استمرار التقدم في الذكاء الاصطناعي، وإنترنت الأشياء، وتقنيات الاتصال، قد نرى في المستقبل القريب تحولاً جذرياً في مفهوم المستشفى ذاته، ليتجاوز الجدران والممرات، نحو فضاء رقمي أكثر كفاءة وإنسانية