آخر الأخبار
الطباعة ثلاثية الأبعاد: محرك التحول العمراني في الخليج

شهد العالم في العقود الأخيرة تطورات مذهلة في مجالات التكنولوجيا والتصميم، ومن أبرز هذه التطورات تقنية الطباعة ثلاثية الأبعاد (3D Printing) التي لم تعد مجرد فكرة خيالية أو تقنية تجريبية، بل تحولت إلى أداة فعالة يُعتمد عليها في مجالات متعددة مثل البناء، والصناعة، والطب، وحتى الفضاء.
البدايات: كيف بدأت رحلة الطباعة ثلاثية الأبعاد؟
بدأت الأبحاث المتعلقة بتقنية الطباعة ثلاثية الأبعاد في أوائل ثمانينيات القرن العشرين، إلا أن الانطلاقة الحقيقية جاءت عام 1986 عندما أطلق المهندس الأميركي تشاك هال (Chuck Hull) أول طابعة تجارية ثلاثية الأبعاد، واضعًا الأساس لثورة صناعية جديدة. يُعتبر تشاك هال الأب الروحي لهذه التقنية بفضل ابتكاره لتقنية “التجسيم الضوئي” أو Stereolithography، وهي من أوائل الطرق المستخدمة في هذا المجال.
نقلة نوعية: من النماذج الصغيرة إلى بناء المنازل
مع مرور الوقت، تطورت الطابعات الثلاثية الأبعاد بشكل هائل، مما سمح باستخدامها في مجالات أكثر تعقيدًا. ففي عام 2014، جذبت شركة “وينسن (Winsun)” الصينية الأنظار عالميًا عندما قامت بطباعة 10 منازل مكونة من طابق واحد خلال 24 ساعة فقط. وقد تم تنفيذ هذا الإنجاز باستخدام طابعة عملاقة يبلغ طولها 32 مترًا، وعرضها 10 أمتار، وارتفاعها 6.6 أمتار.
استخدمت الشركة خليطًا من الإسمنت المعاد تدويره ومخلفات البناء لطباعة جدران المنازل، ثم تم تجميعها في الموقع النهائي. وكانت تكلفة كل منزل حينها أقل من 5 آلاف دولار، ما جعل هذه التقنية واعدة كحل مبتكر لأزمة الإسكان، خاصة في المناطق ذات الكثافة السكانية المرتفعة أو تلك المتضررة من الكوارث.
لاحقًا، واصلت “وينسن” تطوير تقنياتها فتمكنت من طباعة أول فيلا سكنية، ثم أول مبنى مكون من خمسة طوابق باستخدام نفس التقنية، مما أثبت إمكانية استخدام الطباعة ثلاثية الأبعاد كبديل سريع وفعال للبناء التقليدي.
أكبر مشروع طباعة سكني في العالم
بحلول عام 2025، اقتربت الولايات المتحدة من إنهاء أكبر مشروع سكني مطبوع في العالم وهو مشروع “وولف رانش (Wolf Ranch)” في جورج تاون بولاية تكساس، الذي يتكون من 100 منزل تم بناؤها باستخدام تقنية الطباعة ثلاثية الأبعاد، في خطوة تعكس مدى تطور هذه التقنية واستعدادها لتحل محل أساليب البناء التقليدية.
دور دول الخليج في تبني الطباعة الثلاثية الأبعاد
تُعد دول الخليج من أبرز المتبنين لتقنية الطباعة ثلاثية الأبعاد في مجال البناء:
- الإمارات العربية المتحدة: افتتحت دبي في مايو 2016 أول مكتب في العالم يُبنى باستخدام الطباعة الثلاثية الأبعاد. وفي سبتمبر من نفس العام، أعلنت الإمارة عن هدفها الطموح بطباعة 25% من مبانيها باستخدام هذه التقنية بحلول عام 2030.
- المملكة العربية السعودية: ضمن رؤية المملكة 2030 لتطوير قطاع الإسكان، قامت شركة النخبة السعودية في 2019 بشراء واحدة من أكبر الطابعات في العالم، وهي الطابعة الدانماركية BOD2، التي يمكنها طباعة مبانٍ مكونة من 3 طوابق بمساحات تفوق 300 متر مربع للطابق الواحد.
وفي إنجاز فريد، افتتحت السعودية في مارس 2024 أول مسجد في العالم يُبنى بتقنية الطباعة الثلاثية الأبعاد في جدة، على مساحة تقارب 5600 متر مربع باستخدام 4 طابعات صينية متقدمة من شركة “جوانلي”. - قطر: بدأت قطر أيضًا خطواتها نحو استخدام الطباعة ثلاثية الأبعاد في البناء، حيث وقعت شركة “أورباكون” القطرية في سبتمبر 2024 عقدًا مع شركة “كوبود” الدانماركية لاستيراد أكبر طابعات الجيل الثالث لاستخدامها في بناء مدارس نموذجية في البلاد.
الطباعة ثلاثية الأبعاد ودورها في الاستجابة للكوارث
تكمن القوة الحقيقية للطباعة ثلاثية الأبعاد في قدرتها على تسريع إعادة الإعمار في حالات الكوارث الطبيعية أو النزاعات المسلحة. ففي أوكرانيا، التي تعرضت لدمار واسع بسبب الحرب، تم استخدام الطباعة الثلاثية الأبعاد لبناء منازل جديدة بسرعة وبتكلفة منخفضة، خاصة بعد تدمير آلاف المدارس والبنى التحتية.
تقول منظمة “فيلد ريدي” الإنسانية:
“بعد الكارثة، يكون الوقت هو العامل الأهم. الطباعة ثلاثية الأبعاد توفر لنا السرعة والكفاءة لإعادة البناء في الوقت والمكان الذي نحتاج فيه أكثر.”
مقارنة بين الطباعة ثلاثية الأبعاد والبناء التقليدي
الطباعة الرباعية الأبعاد: مستقبل البناء الذكي
ظهرت مؤخرًا تقنية الطباعة الرباعية الأبعاد (4D Printing)، التي تستخدم مواد ذكية تتغير خصائصها بمرور الوقت عند تعرضها لمحفزات مثل الحرارة أو الرطوبة أو الضوء. هذه التقنية قد تُحدث تحولاً في تصميم الهياكل المعمارية مثل النوافذ التي تفتح تلقائيًا عند ارتفاع درجة الحرارة أو الجدران التي تتفاعل مع البيئة المحيطة.
نحو الفضاء: الطباعة ثلاثية الأبعاد على سطح القمر
في خطوة تعكس آفاق هذه التقنية، منحت وكالة ناسا عام 2022 عقدًا بقيمة 57.2 مليون دولار لشركة “ICON” الأميركية لتنفيذ مشروع أوليمبوس، الذي يهدف إلى بناء منصات هبوط ومساكن وطرق على سطح القمر باستخدام موارد متوفرة على القمر ذاته. يندرج المشروع ضمن أهداف برنامج أرتميس لإقامة وجود بشري دائم على القمر.
لم تعد الطباعة الثلاثية الأبعاد تقنية مستقبلية أو خيارًا ثانويًا، بل أصبحت أداة محورية في تشكيل مستقبل التصميم والإنتاج، والإسكان. ومع تطورها السريع وتبنيها في دول العالم المختلفة، من المتوقع أن نرى تحولًا شاملاً في طريقة تفكيرنا بالبناء، ليس فقط على الأرض بل أيضًا في الفضاء، مما يجعل العالم أقرب إلى مستقبل ذكي ومستدام.