آخر الأخبار
منصة “تيك توك” تحث على التسول الرقمي

في عالم يعاني فيه أكثر من 44% من سكانه من الفقر، وفقًا لتقارير صادرة عن بنك الطعام الدولي، أصبحت منصات التواصل الاجتماعي وسيلة بديلة للحصول على الدعم المالي، خصوصًا في ظل غياب فرص العمل وندرة الموارد في العديد من مناطق العالم. وسط هذا المشهد، برزت منصة “تيك توك” كواحدة من أبرز هذه الأدوات، إذ تضم أكثر من 1.9 مليار مستخدم، وتُعد من أسرع التطبيقات نموًا في العالم.
ولكن، مثلما كانت هذه المنصة بابًا للأمل عند البعض، كانت أيضًا فرصة للاستغلال والانتهاك عند البعض الآخر. ومع غياب آليات تحقق واضحة، تحوّل البث المباشر على “تيك توك” إلى ساحة مفتوحة لظاهرة جديدة تُعرف بـ”التسول الرقمي”، التي تجمع بين الاستغلال والعاطفة، وتثير تساؤلات عميقة حول أخلاقيات التقنية وحدود الحرية على الإنترنت.
الوجه الآخر للبث المباشر: عندما يتحول الفقر إلى محتوى
منذ إطلاق خاصية البث المباشر في أغسطس 2020، لم تعد “تيك توك” مجرد منصة لعرض مقاطع الرقص والمحتوى الترفيهي، بل أصبحت أيضًا وسيلة لجمع الأموال بشكل مباشر من الجمهور، من خلال ما يُعرف بـ”الهدايا الرقمية”. هذه الهدايا يمكن تحويلها إلى أموال حقيقية، الأمر الذي جعلها مغرية للمحتاجين وأيضًا للمتلاعبين.
في مشهد أصبح متكررًا على المنصة، يُشاهد أطفال يجلسون في أكواخ بدائية وسط الفقر والعوز، يتوسلون المساعدة بينما يدير بالغ – غالبًا من خارج الكادر – عملية البث. تُبث هذه المشاهد من دول مثل أفغانستان وسوريا وباكستان ومصر وكينيا، لتصل إلى مستخدمين من جميع أنحاء العالم، حتى من الدول الأكثر تقدمًا كألمانيا والمملكة المتحدة وكندا.
منصة الرحمة أم مسرح للاستغلال؟
رغم تأكيد “تيك توك” أنها تمنع استغلال الأطفال أو استخدامهم في محتوى غير لائق، فإن الواقع الميداني يروي قصة مغايرة. فوفقًا لتقرير صادر عن مركز الأعمال وحقوق الإنسان التابع للأمم المتحدة، فإن تسول الأطفال وكبار السن عبر المنصة تحول إلى “مهنة” رقمية منظمة في كثير من الحالات، يديرها بالغون أو شركات تسويق رقمية محترفة.
المنصة، التي تزعم أنها تحظر مثل هذه السلوكيات، لا تزال تقتطع نسبة ضخمة من أرباح هذا المحتوى، تصل في بعض الأحيان إلى 70%، مما يطرح علامات استفهام حول تضارب المصالح. ففي حين يُفترض أن تُحارب هذه الظاهرة، تستفيد “تيك توك” ماليًا من انتشارها.
شهادات وتحقيقات تكشف المستور
في تقرير مشترك نشرته صحيفتا “ذا غارديان” و”ذا أوبزرفر”، تم توثيق عدد من الحسابات التي تعتمد على البث المباشر للتسول الرقمي بشكل يومي ومنظم. بعض هذه الحسابات تظهر فيها استوديوهات معدّة خصيصًا لعرض مشاهد البؤس والفقر. وقد لوحظ أن الوجوه تتغير، ولكن الخلفية والسيناريو يبقيان ثابتين، مما يعزز الشكوك بوجود عصابات منظمة تدير هذا النوع من المحتوى.
أحد هذه الحسابات – بحسب التقرير – كان يدير بثًا منتظمًا لأطفال ينامون على الأرض في غرفة بيضاء، يتوسلون المساعدة. حساب آخر يبدو أنه تابع لشركة، بثَّ مشاهد لأشخاص مختلفين يعانون إعاقات أو أمراضًا واضحة، وسط تصميم تقني احترافي يُظهر أن المحتوى مدروس ومُنتج، وليس عفويًا.
خبراء: المنصة أصبحت موطنًا لمحتوى مؤذٍ
جيفري دي ماركو، خبير الأضرار الرقمية في منظمة “أنقذوا الطفولة”، أكد أن “المحتوى الذي يستغل معاناة الأطفال من أجل كسب الأموال ليس فقط غير أخلاقي، بل يشكّل خطرًا نفسيًا عليهم، ويحرمهم من طفولتهم”. وأضاف أن مثل هذا النوع من “العمل القسري الرقمي” لا يجب أن يكون له مكان في أي منصة تحترم حقوق الإنسان.
من جهتها، ترى مروة فطافطة من منظمة “أكسيس ناو” أن البنية التصميمية لخوارزميات تيك توك تُغري المستخدمين لابتكار محتوى أكثر درامية أو إثارة أو استفزازًا، بهدف الحصول على أكبر قدر من التفاعل، وبالتالي الأرباح. وهذه البيئة تشجع على التسول، التمثيل، وحتى السلوكيات الخطرة مثل تحديات تناول أطعمة مؤذية أو القفز من أماكن مرتفعة.
خط رفيع بين الحقيقة والادعاء
في هذا السياق، تبرز معضلة أخلاقية وقانونية: كيف يمكن التفرقة بين من يحتاج حقًا للمساعدة ومن يستغل تعاطف الناس؟ هل يجب على المنصة حظر كل مظاهر التوسل الرقمي؟ وإذا فعلت، هل تكون قد منعت بالفعل محتاجًا من تلقي دعم كان لينقذ حياته أو حياة أطفاله؟
الحل ليس سهلًا، إذ يتطلب إنشاء آليات تحقق بشرية وميدانية – لا تعتمد فقط على الذكاء الاصطناعي – تستطيع التمييز بين الحالات الحقيقية والمحتوى المزيف أو المدفوع من أطراف مستفيدة.
رد رسمي من تيك توك: بين الحظر والربح
في بيان رسمي، أكدت “تيك توك” أنها أغلقت أكثر من 4 ملايين بث مباشر مخالف للقوانين باستخدام أنظمة الذكاء الاصطناعي. كما أوضحت أن نسبة الاقتطاع من أرباح البث المباشر تختلف حسب التطبيق المستخدم، وقد تصل إلى 70% نتيجة لرسوم متاجر التطبيقات (مثل آبل وجوجل) التي تقتطع نسبة من المعاملات.
لكن رغم هذه السياسات، لا تزال المنصة تتجنب وضع قوانين صارمة تحظر المحتوى الذي يقوم على التسول الرقمي بشكل مباشر، مما يجعلها عرضة للنقد من جهات دولية ومحلية.
مستقبل البث المباشر على تيك توك.. إلى أين؟
بينما تزداد شعبية خاصية البث المباشر كوسيلة للربح السريع، تزداد معها التحديات المرتبطة بسوء استخدامها. وبدلًا من أن تكون أداة لدعم الفقراء، قد تتحول إلى منصة استغلال منظم، يضيع فيها صوت المحتاج الحقيقي وسط صخب “المحتوى المفتعل”.
الكرة الآن في ملعب “تيك توك”، إما أن تُثبت أنها منصة مسؤولة تراعي الأخلاق والإنسانية، أو تواصل طريقها كمجرد آلة ربح، بصرف النظر عن الأضرار الجانبية.